ها أنتَ منذ سنوات طويلة كلما تفاقمَ شظفُ العيشِ وضاقتْ بك الآفاق شعرتَ أنّ ما يعوزك هو هنالك في البلاد التي سقط رأسك فيها، البلاد التي ترعرعتَ فيها. البلاد التي ألفتها وعرفتها. نعم، أنتَ تتظاهر أمام رَهْطكَ وأصهارِكَ أنك على ما يُرام وأنك تُمْسِك بإحكام بزمام حياتك. تبعث إلى أهلك بصورة لك تبدو فيها مسترخياً على صخرةٍ تُطعِمُ البَطّ وأخرى على ساحلٍ رملي مليء بالأصداف والقواقع الملونة. قطرات من رذاذ البحر سقطت على العدسة وبَدَتْ على وجنتك. وراءكَ في الصورة أناس يضحكون ويسبحون بين الموج. حين تتحدثُ مع أهلك عبر الهاتف، تُنَقْحرُ كأنك لا تعرف لغتهم. تتظاهر بأنك تنتمي إلى المكان ولكنك تعلم أن جدراناً كثيرة مرئية وغير مرئية تحيط بك. جدرانٌ تظهر فجأة وتختفي تدريجياً أو تظهر تدريجياً وتختفي فجأة. تشيّدُ بعضها أنتَ ويشيّدُ بعضها الآخرون. تهدمها ويشيدون. تشيّدها ويهدمون. أنتَ تتظاهر بأنك قادر على الخوض في عباب الحياة، و تبدي ثقة كبيرة تثير غيرة من حولك. رغم هذا فأنت تمضي أوقاتك ترزح تحت وطأة شعور تخفيه ولكنه ثقيل يطبق مثل خُناق على رقبتك. أنت تعلم جيداً أنك خارج السياق، وأنك نأيتَ بعيداً وراء السرب. أنت تعلم أنك وضعتَ حياتك على الرف. أجلّتها متناسياً متجاهلاً دبيب عقرب الساعة. لهذا كنتَ تستقرئ ظروفك وتنتظر أن تضع الحرب أوزراها كي تعود إلى البلاد/الخبز/الدفء. هذا حلم يقظة مزمن أو مهرب سايكولوجي تلوذ به كل يوم. تلك البلاد، البلاد التي جئت منها، خِرقةٌ تلفّ نفسك بها كل يوم وتنام.
ها أنتَ قد عدتَ الآن إلى البلاد، تبحث عن خيوط حياتك، حياتك الأولى. تحلم أن تنظمها وتحوكَها كي تتماسك، كي تشدّك إلى بعضك. ذهبت إلى البلاد تبحث عن صورتك الأولى، عن صورتها الأولى. الصورة التي رسمتها لها فيما بعد. تضع ملابسك المدنية على مشجب معدني وترتدي جلبلاباً مخروطياً رمادياً وتستريح في عين الحجرة البيضاء التي عشت فيها من قبل. تستنطق جدرانها وتسترجع أيامك: الميْجنة، الرحى، الجوالق، القدر النحاسي الكبير، غربال الحبّ. صورتك وأنت تقلّم سيقان الرمان مازالتْ معلقة على الحائط. الحجرة باردة جداً. أطرافك يقرضها البردُ.
تذهب إلى مجلس رجال العشائر. تُحيّيهم ويُحيونك. وتستحضر سنواتك الأولى. تتذكر أيامك معهم. كان أغلبهم ممن يزرعون القمح والشعير وكان دأبهم وديدنهم الحديث عن الزروع حين يحضرون. كانوا لا يحضرون المجلس إلا ليتنازعوا. بل كانوا لا يفضون نزاعاً إلا ليبدؤوا بآخر. كان الماء يُرفع بمضخة من الفرات ويجري في الساقية الكبيرة التي تتفرع منها تُرَع وجداول يتدفّقُ منها الماء إلى الزروع. كانوا يتناوبون على الماء فمرّة يُغلق فمُ هذه التُرعة ومرةً فمُ تلك الترْعة حتى يرتفع الماء لسقاية زرعِ هذا أو زرعِ هذا، حسب خطة إرتأوها وأخذوا بها. ينشب الشجار أو النزاع لأسباب شتى. مثلاً، كانوا يختلفون فيمن يتوجب عليه تنقية الساقية من الطحلب البَطّي الذي ينمو فيها بغزارة ويُعيق جريان الماء. أو أن يختلفوا فيمن يملك مراعي الحندقوق المحاذية لحقول الشعير. وفي أحيانٍ كثيرة يحدث أن ينفجر سدّ الماء في فَمِ الجدول المتفرّع من الساقية الكبيرة فيجري إلى غير جهته، فيُظَنُّ أن الذي جرى الماءُ إلى صوبه هو الذي هدمَ السد، فيحتدمُ سجال الماء فيما بينهم ويؤشرون بسبّاباتهم هكذا:
أنت الذي خَرَقْتَ السدّ، سدّ الماء، وأعطشتَ زرعي!
فيجيبه بل تهاوى السد من تلقاء نفسه!
فيرد عليه الآخر: بل لمحنا خيالك! ورأينا آثار مسحاتك وشهدنا حافر دابتك وعلامة صندلك الجديد!
وقد يحدث أن يتجادل الرجال في المجلس حول من يستحق الماء أولاً، فكل واحد منهم يريد الماء لحقله:
الماءُ المُتَرَقْرِقُ في الساقية لي!
الماءُ المُتَرَقْرِقُ في الساقية لي!
فيؤيده فريق منهم: الماءُ له! الماءُ له!
ويشير أخرون إلى رُويْجِل في أقصى المجلس: الماء له! الماء له!
ويقفز أحد كان صامتاً طوال الوقت: الماء لي! الماء لي!
وهكذا تتعالى أصواتهم في المجلس وتحتد نبراتهم حتى يتم توزيع الشاي أو تدق الساعة فينصتون جميعاً إلى نشرة الأخبار، يتابعون الحرب. كان المذياع هو نافذتهم الوحيدة على العالم. مع هذا فإنهم كانوا يتحدثون عن مغامراتهم ويسردون قصصاً تتعلق بتأريخ العشائر وصراعاتها القديمة، وكيف إرتفعت عشائرٌ وإنخفضت أخرى. كانت أحاديثهم عن الحياة وشروطها وديمومتها. كانوا يحلمون أن تمضي الحرب ويأتي عالم خصيب أخضر.
ها أنت الآن، بعد نيف وعشرين عاماً، في مجلس رجال العشائر. جاءك أغلب الرجال ممن كان يحضرون في السابق. واظب جميعهم على الحضور إلا الرجل الذي كان يذرّي البيادر، بعد أن تدوسها الحمير، وينقّي الحَبّ ويستخرجه من التبن. قالوا أنه أصبح مُخبّلاً ولزم بيته لا يبرحه. ينام ويهب مذعوراً يصيحُ: أمسكوه! أمسكوه! رماني! رماني! يُخيّل إليه أن رجلاً منهم يطلق عليه الرصاص من الشبابيك. وقالوا أن جدران حجرته جميعها خططتها القطط ببراثنها.
كان رجال العشائر يأتون إليك في العشي. لا أحد يعرف ماذا كانوا يفعلون في النهار. في البدء يجلسون صامتين صمتاً يطول أو يقصر ثم يبتدئ الكلامُ. يتهامس إثنان منهم ويشترك ثالث ورابع في حديثهم حتى يُجْتذَبَ جميعُ من في المجلس إلى الحديث، رغبة أو غيرة أو تنافساً أو محاولة للدفع عما يراه كل واحد منهم ويعتقده. تتشعب الأحاديث وتتعقد ولكنها تدور حول محاور ثابتة. غالباً يبدأ رجال العشائر بالحديث عن شائعات السوق التي لا يُعرفُ منشأها ولكنها طارت وإنتشرت وذاعت بين الناس وأصبحت لشدة معرفة الناس بها حقائق لا يمكن مساءلتها. ليس في فحوى هذه الشائعات إلا ما يؤكد الإفتراضات والتصورات التي يضمرونها. تلك الإفتراضات التي ترسم حدود العالم لهم و تشخص أسباب الجيَشان الطائفي. بعبارة أخرى، ما يجري وما يُتَداول هو كل ما يحافظ على مقدار عالٍ من الشّحْناء. يحدث أن ينصتوا لأحدهم على قناة تلفازية يفسر نصوصاً وأحاديث قديمة و يبتدع نظاماً طَلْسمِياً من الهَمْهَمات لا يمكنُ للبشر المعاصرين و لا القدامى أن يدركوا منطقه وقواعده. ينصتون بإهتمام شديد وتمعّن بالغ ويبدون إعجاباً كبيراً. ما يرونه أن الأعاجيب والمعجزات تتكشّف لهم فما عليهم إلا التسليم بها. إن ما يسمعونه يدعو إلى التقوى والخشوع. لا يَهُمّ حين يُحَمّل الكلام ما لا يَحْمل. يرون أن اللغة تحمل مستويات مختلفة من المعاني لا يستطيع كل من هبّ ودبّ أن يدركها. ولأنّ التقوى تبعث التقوى ينخرط الرجال لساعة في الجدال والتفيْهُق عن علّة كراهةِ أكلِ طحال الجاموس وسبب تحريم القبّرة وتحليل لحم العصفور. وكيف أن الإكتشافات العلمية الحديثة في الغرب والصين تؤيد علل الشريعة.
يأتي رجلٌ يتوكأ على عصا. كان ضابطاً رفيعاً في الجيش وكان له مكانٌ محمودٌ في الحزب. جاء من بغداد. يحييونه ويحييهم ثم يبدأ بالتهامس مع من حوله ويدور حديث عن فساد الحكومة وتعذر إصلاحها ثم سرعان ما يبدأ الرجل بالعويل. يتذكر واقعة الغاضرية ويبكي بكاءً مراً، ويُغمى عليه. يفيق وكلما أفاق يتذكرها كأنه سمع بها لأول مرة فيولْول ويغشى عليه فلا يفيق حتى يسكبوا الماء المتجلّد عليه ويدلكوا أوداجه. يستفيق أخيراً ويعلن أن كل هذا العنف والدم قد تم التخطيط له منذ زمن طويل. لا جدوى من خداع النفس. هذه خطة محكمة دبرها الغرب منذ بداية القرن التاسع عشر. والله لا حل لنا إلا بقيام الساعة. يحلفُ.
هكذا يستمر الحديث عن الجبرية التأريخية/السياسية لساعة أو ساعتين ولكن الكلام يبلغ ذروته حين يتم الحديث عن الآخرة وعذاب القبر وما إذا كان البرزخ زماناً أم مكاناً؟ أهو جزءٌ من الدنيا ام الآخرة؟ أو من الذي يقبع في البرزخ: الروح أم الجسد أم كلاهما؟ ومنكر ونكير، هل هما من الملائكة أم من الجن، أم من كائنات لَحْدِيّة مختلفة؟ وعلامات الساعة وما ظهر منها؟ ما الذي سيُرى منها في السماء وما الذي سيُرى منها في الأرض؟ وهم يحتجون فيما يستدلون به على ما عرفوه من الهاتف الجوال وكتاب الوجه والشبكة العنكبوتية وعدد هائل من القنوات التلفزيونية ومنابر الخطباء المحلية. فقط حين يتم وصف خاتمة الحياة والفناء ومصائر الموتى يبلغ الحديث ذروته و يتنفس الناس الصعداء. في تلك اللحظة يَتَيَقّنُ المخلوق من غاية خلقه. إنها لحظة إمّحاء الحد الفاصل بين الحياة والموت. هي لحظة تَطهّرٍ وحُلول. حلولُ كل شيء في كل شيء. في البدء، يبدو الحديث مثل شجار متعدد الأطراف حيث يلقي كل واحد منهم بما يراه ولكن عند الذروة يُهَيْمن أحدهم على الكلام ويصغي الآخرون بوقار وخشوع. هذا الحديث نفسه وبثيماته المتنوعة يتكرر كل يوم مثل طقس مقدس. بعد ذلك يطبق صمت على المجلس. يأتيك أحدهم كان يجلس في ركن المجلس ويضع يده على عاتقك: ألا تتذكرني؟ أنا ! أنا! ألا تتذكرني؟ أنسيتَ مناجلنا؟ أنسيتَ أسنان مناجلنا المُقوّسة؟ يذهبُ رجال العشائر إلى بيوتهم. تعودُ إلى حجرتك وتضطجع. تتساءل: أين تضع يدك في الحَوْمَة الملتهبة؟ أين تضع قدمك في الزحام؟
تذهب في الصباح إلى سوق الماشية حيث يجلب الأعراب الغنم لبيعها. يتجلّى الأسى في كل كائنات السوق: القصاب يسلخُ ذبيحة علّقها على جذع أقامه على حافة بركة ماء أزرق آسن. يمسك بلحية العنز ويسلخ الذبيحة ويرمى بالأجزاء التي لا بما يراه ولكن عند الذروة يهمين أحدهميرمى بالأجزاء التي لا تؤكل منها فتتهارش الكلاب عليها. جمْعٌ من الأطفال يخرطون الأمعاء لإستخراج ما فيها. رعاةٌ يشكون القَحْطَ وكساد السوق فيعودون بشُوَيْهاتِهم. بعد ذلك تذهب إلى الحقول. تجد أن الأرض كلها قد أسبختْ والسواقي التي كانت تزخر بسمك السلور (ابو الزُّمَّير) قد إنطمرت وبدت مثل خطوط من التراب مرتفعة، حتى شجيرات العوسج التي كانت تنمو على حافة الساقية الكبيرة والتي كان يستظل بها الركبان ويقطفون منها ثمار الطّمَيْطَة قد زالت تماماً ولم تهْتدِ إلى مكانها. تغنيّ:
كُفِّي إضطراباً وَعِي يا روحي الآيــسَه
قدْ غرّدَ الطّيطوى في القيعة اليابِسَه
هذا إبنُ آوى عَوَى والرّيحُ قدْ عَجْعَجَتْ
مَنْ رُمْتَ تِسْآلَهم طناطلٌ هاجـــسه
ها أنتَ كنتَ في سباتٍ فضربتكَ البلاد على يأفوخك. لم تكن تعرف كم لبثتَ. تهرع إلى المرآة فتستهجن مَرآك ويهالك منظرك. هذا أنتَ وتلك صورتك. تتفرس في وجهك. كأنك لم تعهد صورتك من قبل. كأنك لم تكُ تعلم هيئتك. كأنك لا تميز ملامحك. تتأمل غضون وجهك. تريد أن تتثبت من نفسك. قرادٌ يدبُّ من صيوان أذنيك ومناخرك. حَمْنانٌ يسري من تجاويفك. صئبان تتساقط من عيونك. صديدٌ ينزّ من جوانبك. تفكر بالحرب ورجال العشائر والبلاد. الحَرْب أتَتْ ولم تبرحْ. ما زلت تسمع جَلَبَتها. وترى دخانها. الحَرْب تأتي إلى البلاد لأنها تألَفُها. أفعى تألفُ عَرْفَجَة. الحرب أنتَ جَسَسْتَ معصمها: أيهما أكثر لهباً: جمرك أم رمضاءها؟ جمرها أم رمضاءك؟ رجال العشائر/الشعب يبحث عن/يعبث بمصائره. البلاد من زاخو إلى الفاو، من ذروة حصاروست إلى سفح جبل سنام، من حاج عمران إلى قضاء السلمان، البلاد، تلك البلاد سعلاةٌ تأكل صغارها!
الهوامش
*الطناطل: جمع طنطل وهو الغول وهو كائن يسكن في الأماكن الخربة والمفازات البعيدة وهو يتلون ويتخذ أشكالاً مختلفة يضل الناس حتى يتيهوا و يهلكوا. والطنطل في الإصطلاح الدارج يشير إلى الإنسان الحائر لا يعرف أين يذهب وماذا يفعل أو ماذا يكون وما يتوجب عليه أن يكون.